الخميس، 19 يونيو 2014

آفة الحسد

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

طرق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [54-56/1]
 الحسد: وهو كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء تمنى زواله أو أن يبقى ولكنه كاره له.
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره والحسد قد لا تخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطراريًّا للنفس، ولكن جاء في الحديث: "إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق" 1.
يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسدًا للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] .
ثم إن الحاسد يقع في محاذير:
أولًا: كراهيته ما قدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كونًا ومعارضة لقضاء الله عز وجل.
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحطّ من قدره وما أشبه ذلك.
ثالثا: ما يقع في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلا، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهًا باليهود، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" 2.
خامسًا: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبدًا أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد؟.
سادسًا: أن الحسد ينافي كمال الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 3.
ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكن تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك وهذا ينافي كمال الإيمان.
سابعًا: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتمًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] .
ثامنًا: أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه فلا يقوم بشكرها بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم؛ لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحطّ من قدره أحيانًا، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحيانًا إلى غير ذلك.
عاشرًا: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته يوم القيامة فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاته فطرح عليه ثم طرح في النار.
والخلاصة : إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال لكنه كما ذكرنا آنفًا فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثر والله المستعان.
__________
1 ضعيف: ورواه ابن حجر في الفتح 10/213. وابن عبد البر في التمهيد 6/125. وقال ابن حجر هذا مرسل أو معضل وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 2527.
2 صحيح: رواه أبو داود 4031. وأحمد 2/50, 92. وصححه الألباني في الإرواء 1269.

3 متفق عليه: رواه البخاري 13. ومسلم 45.

طرق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

طرق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [51-53/1]
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكانًا فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا تعددت الطرق فإنه يبحث عن أقربها وأيسرها؛ لذلك كان من المهم لطالب العلم أن يبني طلبه للعلم على أصول، ولا يتخبط عشواء، فمن لم يتقن الأصول حرم الوصول، قال الناظم:
وبعد فالعلم بحور زاخرة ... لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكن في أصوله تسهيلا ... لنيله فاحرص تجد سبيلا
اغتنم القواعد الأصولا ... فمن تفته يُحرم الوصولا

فالأصول هي: العلم والمسائل فروع، كأصل الشجرة وأغصانها إذا لم تكن الأغصان على أصل جيد فإنها تذبل وتهلك.
لكن ما هي الأصول؟ هل هي القواعد والضوابط؟ أو هي القواعد والضوابط؟ أو كلاهما؟
الجواب: الأصول هي أدلة الكتاب والسنة، والقواعد والضوابط المأخوذة بالتتبع والاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما يكون لطالب العلم، مثلا المشقة تجلب التيسير هذا من الأصول مأخوذ من الكتاب والسنة. من الكتاب من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمران بن حصين: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع على جنب" 1.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" 2.
هذا أصل لو جاءتك ألف مسألة بصور متنوعة لأمكنك أن تحكم على هذه المسائل بناء على هذا الأصل، ولكن لو لم يكن عندك هذا الأصل وتأتيك مسألتان أشكل عليك الأمر.
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد أن الإنسان يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى: الطول، فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل، ومعاناة شديدة، وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم، وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس، لا سيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة، فيأخذه الكسل ويكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالبًا، لا ينبني عليه قواعد أو أصول، ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب؛ لأنه ليس له قواعد وأصول يقعد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكورًا في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة عند أهل العلم، بل عند الأمة، ثم يأخذ بهذا الحديث ويبني عقيدته عليه، وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات، فلا بد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول، بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئًا مخالفًا لهذه الأصول لا يمكن الجمع فيها، فإننا ندع هذه الجزئيات.
الثاني: من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب، أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم والتحقيق، وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة، ورد الأقوال الضعيفة، وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم، وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقيًا من درجة إلى درجة أخرى فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليمًا.
__________
1 صحيح: رواه البخاري 1117. وأبو داود 952. والترمذي 371. وابن ماجة 1223. وأحمد 4/496.

2 متفق عليه: رواه البخاري 7288. ومسلم 1337.

الأربعاء، 18 يونيو 2014

بعض قصص السلف في المثابرة على طلب العلم

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

الأسباب المعينة على طلب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [47-46/1]
يروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول.
وعنه أيضا رضي الله عنه قال: إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث. فابن عباس رضي الله عنه تواضع للعلم فرفعه الله به.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضًا عن الشافعي رحمه الله أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي - رحمه الله - يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير ما فعل النغير" 1.
أبو عمير كان معه طائر صغير يسمى النغير، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال: إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جر إليها حديث آخر، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي رحمه الله ولم يتوضأ* ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له: يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسئل الإمام الشافعي فقال: أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعامًا أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء.
أقول على كل حال: إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وألا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة، فقال المدرس: لماذا؟ فقال: لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملا لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي:
هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيرًا.
__________
1 متفق عليه: رواه البخاري 6129. ومسلم 2150.

* لأنه ما زال على وضوئه.

التقوى وصية الله ورسوله للأولين والأخرين

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

الأسباب المعينة على طلب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [45-43/1]
التقوى وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131] .
وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: "اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم" 1.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خُطَبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل- فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه؛ ومن شكره زاده.
وأوصى علي رضي الله عنه رجلا فقال: أوصيك بتقوى عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا مُنتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة.
وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام.
ومعنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه.
وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه. واعلم أن التقوى أحيانًا تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي. وإذا أفردت صارت شاملة تعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم - ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - امتثالا لأمره، وطلبًا لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] .
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:
الفائدة الأولى: {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} أي يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علمًا ازداد معرفة وفرقانًا بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوة الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما آتاه الله من الفهم. الفتوى سبب لزيادة الفهم.
ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميّز بها حتى بين الناس. فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئًا بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.
الفائدة الثانية: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" 2.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما" 3.
فالكفارة تكون بالأعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقى الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} بأن ييسركم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
__________
1 صحيح رواه الترمذي 616. وأحمد 5/251, 262 وصححه الألباني في الصحيحة 687.
2 صحيح: رواه مسلم 233. والترمذي 214. وأحمد 2/400.

3 متفق عليه: رواه البخاري 1773. ومسلم 1349.

الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الأسباب المعينة على طلب العلم

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

الأسباب المعينة على طلب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [48-43/1]
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها:
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131] .
وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: "اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم" 1. 
ثانيًا: المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا يُنَال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مُثَاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن2 النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهَّل الله له طريقا إلى الجنة ".
فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.
ثالثًا الحفظ:
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرار ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ... وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] .
وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] .
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا، لعموم قوله: {زَادَهُمْ هُدًى} .
رابعًا ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله عز وجل ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول: إنه لا يُدرَك العلم إلا بالتلقي من المشايخ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكبّ إكبابًا تامًّا، ورزق الفهم فإنه قد يخطئ كثيرًا ولهذا يقال: من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشايخ، وأنا أنصح طالب العلم أيضًا ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضًا، فأنت تجعل لك عالمًا تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلا من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.
__________
1 صحيح رواه الترمذي 616. وأحمد 5/251, 262 وصححه الألباني في الصحيحة 687.

2 صحيح: رواه مسلم 2699. والترمذي 2641, 2945/وأبو داود 3643.

ما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله !!!

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

آداب طالب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [42-40/1]
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله - عز وجل - ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثيرًا من الناس أوتوا علمًا ولكن لم يؤتوا فهمًا. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لا بد أن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطرًا بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطئ بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:
المثال الأول: قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78، 79] .
فقد فضَّل الله عز وجل سليمان على داود في هذه القضية بالفهم {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ولكن ليس هناك نقص في علم داود {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله عز وجل ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضًا ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} . وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر. وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافئ، والآخر فيه ماء بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعض الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد؛ وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ "، قالوا بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره" 1 الحديث. يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق. فهل الخطأ في العلم أم في الفهم؟
فالجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إسباغ الوضوء على المكاره" ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين. لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: "إسباغ الوضوء على المكاره". أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر؟
الجواب: في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر" 2. فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر؟!
ولا شك أن الله عز وجل يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر. فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثرًا بها في علمه حتى يكون قدوة صالحًا وحتى يكون داعيا إلى الخير وإمامًا في دين الله - عز وجل - فبالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين، كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .
__________
1 صحيح: رواه مسلم 251. والترمذي 51. والنسائي 143. واحمد 2/277, 301, 303.
2 صحيح: رواه البخاري 39. والنسائي 5024.

السبت، 14 يونيو 2014

طالب العلم بين الثبات والتثبت

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

آداب طالب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [40-39/1]
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظًا مختلفان معنى.
فالثبات معناه: الصبر والمثابرة وألا يمل ولا يضجر وألا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلا بعض الطلاب يقرأ في النحو: في الآجرومية ومرة في متن قطر الندى، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في ألفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا، هذا في الغالب لا يحصِّلُ علمًا، ولو حصَّل علمًا فإنه يحصل مسائل لا أصولا، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتًا بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتًا بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذوّاقًا كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ، قرِّر أولا من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قرّرت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخًا في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخًا آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أيامًا طلقها وذهب يطلب أخرى.

أيضًا التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعة المنقول عنه قصدًا وعمدًا، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ؛ وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نقل عنه الكلام.

لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف

بســـــــم الله الرحمــــــن الرحيــــم

آداب طالب العلم (كتاب العلم للعثيمين رحمه الله) [37-36/1]
ولهذا لا تجد أحدًا أنعم بالا، ولا أشرح صدرًا، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبدًا، حتى وإن كان فقيرًا، فالمؤمن أشد الناس انشراحًا، وأشد الناس اطمئنانًا، وأوسع الناس صدرًا واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
ما هي الحياة الطيبة؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له"1.
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحًا بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر - رحمه الله - وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب، فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زَيّات - أي: يبيع الزيت - وعادة يكون الزيّات وَسِخ الثياب - فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر - رحمه الله -: إن نبيكم يقول: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" 2. وأنت قاضي قضاة مصر، وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا - يعني نفسه اليهودي في هذا العذاب وهذا الشقاء قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجنًا، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة. فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. وأسلم.
فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3] .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: الآية 58] .
__________
1 صحيح: رواه مسلم 2999. والدارمي 2777. وأحمد 4/332, 333, 6/15, 16.

2 صحيح: رواه مسلم 2956. والترمذي 2325. وابن ماجة 4113. وأحمد 2/323, 2/389, 2/485.

Translate